أهلاً أهلاً!
قبل أن تتسرّع و تقول أنّني سأتكلّم عن شيء مثل تعفّن الدّماغ أو ما شابه، لأنّ العنوان كان ليكون كليشيه جدًا لو كان هذا هو الموضوع، أبشرك، أكره هذه العبارة.
ليسمع العالم أنّني اخترتُ عنوان المقالة قبل موضوعها أصلاً، أعتذِر إن كان هذا في قوانين الكتّاب جريمة، و لكنّني لستُ كاتبة، فلا تتوقع منّي شيئًا! كلّ ما فعلته، أنني جلست أسمع "عبد الحليم حافظ" و موشّحات الأندلسي -بدون موسيقى-، بينما أستطعم المقولة و أتذوقها، فقررت جعلها عنوانًا. إن كنت مجنونًا، والجنون سمةُ العُقلاء، لنكتشف معًا ما س"أهبده" هنا.
طيب يا سيدي، العنوان عندنا، تجو نتكلّم عن لماذا نحن البشرُ حمقى؟ نعم؟
تحضرني الكثير من المواقف من تاريخ البشرأين كان الإنسان فيها أحمقًا بشكلِِ ما قد نستقي منها العِبر معًا، و مواقفي المحرجة التي لن أذكرها حفظًا لماء وجهي هنا.
قصصٌ قصص.. فما الحياة إلّا قصصٌ تُروى
في بدايات القرن التاسع عشر، كانت الدولة العثمانية قد وصلت إلى أقصى امتدادها، ولا ننكر أنها بدأت تضعف. خلينا من التفاصيل، المهم في سياقنا أنّ اليونان كانت تحت سيطرتها. بعض اليونانيين اندمجوا في المجتمع العثماني وأسلموا، لكنّ البعض الآخر اعتبر العثمانيين مستعمرين وظلّوا متمسكين بالمسيحية.
خارج اليونان، كان للأوروبيين مواقف مختلفة، بريطانيا كانت تريد استرداد اليونان للاستيلاء على الممر التجاري الذي يربطها بالهند، التي كانت مستعمرةً لها بشكل غير مباشر. أما روسيا القيصرية، فكانت تمقت العثمانيين لأنهم يهددون الوجود الأرثوذكسي. وهناك ارتباط وثيق بين القياصرة الروس والمسيحية، وقد تحدثنا عن ذلك في مقال سابق، فمالكم في الطويلة. إضافةً إلى ذلك، كانت روسيا تسعى لتحقيق حلمها الأزلي في الوصول إلى المياه الدافئة. أما فرنسا، فكانت تحاول الحفاظ على نفوذها في البحر المتوسط، في ظل انتشار موجة فكرية تُسمى "الرومانسية" تدعو لاسترداد اليونان، مهد الحضارة الأوروبية، وشارك فيها العديد من الفنّانين الفرنسيين مثل "دولاكروا" وغيره، مما أكسب القضية اليونانية تعاطف الشارع الفرنسي، خاصة المسيحيين اليونانيين.
كل هذا الضّغط تسبب في تكوين حلف بين الدّول الثّلاث تحت مبدأ "عدوّ عدوّي، صديقي".
تهديدات خارجية؟ لا، مشاكلنا الداخلية أمتع!
قد تتساءل: ماذا فعل اليونانيون الرّافضون للوجود العثماني طوال هذه الفترة؟ الجواب: كانوا يحاربون بالطبع! ففي 1821، قام اليونانيون بثورة ضد الاحتلال العثماني، وحققوا انتصارات سريعة وأعلنوا استقلالا جزئيًا في يناير 1822.
Sike!
لم يدم الاحتفال طويلًا بسبب الانقسامات الداخلية واندلاع الحروب الأهلية.
وهنا تظهر لنا حماقة البشر؛ نتفكك إلى قوميات تكره بعضها وتحارب بعضها، لنقدم أنفسنا ضحية سهلة لأعدائنا الأعزّاء، والتاريخ يعيد نفسه، والمستعمر الغربي حفظ القاعدة، فبات يفكّك من بعيد قبل أن يغرس أنيابه.
نعود إلى القصة، السّلطان محمود الثاني طلب مساعدة من مصر، فأرسل محمد علي باشا ابنه إبراهيم باشا في 1824 مع جيش وأساطيل كبيرة لإخماد الثورة. إبراهيم استعاد السيطرة على معظم مناطق اليونان بحلول 1827، وبقيت فقط بعض المدن الساحلية تحت سيطرة الثوار. قد تتساءل لماذا مصر بالتحديد؟ الجواب أن مصر في ذلك الوقت كانت تملك أقوى جيش في الإمبراطورية العثمانية لما أولاه الخليفة العثماني لها من أهمية خاصة.
في أغسطس 1824، طلبت الحكومة اليونانية من بريطانيا التدخل لوقف الحرب. وفي أبريل 1826، وقع دوق ويلينغتون في سانت بطرسبرغ بروتوكولًا بين بريطانيا وروسيا يتضمن وساطة بين اليونانيين والعثمانيين، لكن هذا الاتفاق لم يشمل بندًا عسكريًا وكان ضعيف التأثير. سريعا تطورت المفاوضات بين القوى الأوروبية حتى تم توقيع معاهدة لندن في يوليو 1827 بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، والتي تضمنت بندًا سريًا يسمح باستخدام القوة العسكرية إذا رفض العثمانيون وقف القتال، وتعترف باستقلال اليونان.
العثمانيون رفضوا الوساطة وامتنعوا عن قبول أي اتفاق، مما دفع القوى الثلاث إلى التهديد بالتدخل العسكري وفق البند السري. رغم ضعف الأساطيل الفرنسية والبريطانية في شرق البحر المتوسط، تم التصعيد نحو فرض السلام بالقوة.
حماقة جديدة: الغرور؛العثمانيون و من معهم امتازوا بالعدد و السّمعة، و هذا ما جعلهم لا يدركون الخطر المحدق الذي هم بصدد مواجهته. بل و أنّ أسطولهم حتى يوم المعركة كان مرتّبًا بصفة استعراضية أكثر ما تكون. و تموقعوا داخل الخليج مما أدّى لاكتضاض و عشوائية.
وقعت المعركة البحرية عن طريق الصدفة أكثر من كونها نتيجة لمناورة القائد العام لقوات الحلفاء، الأدميرال إدوارد كودرينغتون، بهدف إجبار القائد العثماني على طاعة تعليمات الحلفاء. أنقذ غرق أسطول البحر الأبيض المتوسط العثماني، الجمهورية اليونانية الوليدة من الانهيار، لكن ذلك الأمر تطلب تدخلين عسكريين آخرين من جانب روسيا، تمثلا بالحرب الروسية التركية 1828- 1829 ومن جانب قوة التدخل الفرنسية إلى بيلوبونيز لإجبار القوات العثمانية بالانسحاب من وسط وجنوب اليونان، بهدف تأمين استقلال اليونان في نهاية المطاف.
وقائع المعركة من الناحية العسكرية سأختصِرها في أنّنا خسرنا.
بعد كلّ شيء، من البطل هنا؟
الحقيقة، أنّ التاريخ غريبٌ جدًا، تتلوه الأمم المنتصرة للعالم، و كلّ له أغنية مختلفة يردّدها. معركة نافارين بالذات مثلا تفضحُ هذا عيانًا. في ويكيبيديا، النسخة الفرنسية، قيل أنّ محرّك الأوروبيين كان إنسانيًا، فقد ورد هناك:
La bataille de Navarin est considérée comme la dernière grande bataille navale de la marine à voile, avant l'avènement des navires à vapeur, des cuirassés et des obus, mais aussi comme une étape décisive vers l'indépendance de la Grèce et comme l'une des premières « interventions sous un prétexte humanitaire » de l'histoire.
ترجمة: معركة نافارين تُعتبر آخر معركة بحرية كبيرة للأساطيل التي تعمل بالأشرعة، قبل ظهور السفن البخارية والمدمرات والقذائف، أيضًا تُعدّ خطوة حاسمة نحو استقلال اليونان، وواحدة من أوائل التدخلات التي تمت تحت محرك "العمل الإنساني" في التاريخ.
ولو انتصر العثمانيّون كنّا سنسمع شيئًا عن مدح جيوشهم و شيطنة الرأي الذي دعى بشرعية الثّورة اليونانية.
أن تعيش بين لو و لولا:
إستطاعت أساطيل الدول الأوروبية الثلاث في تحقيق استقلال اليونان عن الحكم العثماني، بعد أن إستغلت هذه الحادثة في الضغط على السلطان محمود الثاني لقبول استقلال اليونان بينما كان هدفهم في البداية أن تعطى اليونان حكماً ذاتياً مع التبعية للعثمانيين. تسبب تدمير الأسطول العثماني واضطرار السلطان محمود إلى إعادة بنائه من جديد في إلحاق الضرر الجسيم بمالية الدولة التي أصبح عليها بناء جيش وبناء أسطول، حيث تصادف «معركة نافارين» الفترة التي قضى فيها السلطان محمود على قوات الانكشارية وسعيه إلى تأسيس الجيش الحديث.
-من الإنترنت
تُستعمل المعركة كحجّة لتقهقر الوضع العثماني، و المصري و استعمار فرنسا للجزائر، حتّى أنّني قرأت مؤخّرًا روايةً كاملةً تصُبُّ في الموضوع. و لكنّ الحرب واقعٌ حدث، بل ما يقال يُعابُ علينا و لا يحسب لنا، فالأساطيل تجهّز في نهاية الأمر لخوض الحروب صح؟ لماذا إذا نعيب المعركة؟
و من ناحية أخرى، جاء في كتاب "الجزائر والحرب اليونانية العثمانية" لخليفة حمّاش، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة قراءة أخرى، تقول أنّ التدخّل الجزائري في المعركة لم يكن "عملاقًا" كما قد يعتقد البعض:
تطرق الدكتور حماش لقضية مهمة وهي الأدلة التي إستند عليها القائلين بالمشاركة في نافرين وتتمثل في:
- تواجد البحار والقائد الجزائري جزايرلي عرب مصطفى قبطان في معركة نافرين وهنا يؤكد بالدليل بأن وجوده هناك كان بصفة شخصية وليس على رأس سفينة الجزائرية وهي المغالطة الأولى
- وجود السفينتين الجزائريتين مفتاح الجهاد ونفر اسكندر بميناء الإسكندرية سنة 1830م حيث روج على أساس أنهما من بقايا الأسطول المحطم في نافرين وعادتا مع الأسطول المصري، وهنا يؤكد خليفة حماش بأن السفينتين كانتا في مهمة نقل الحجاج وليس لغرض عسكري وقد بقتا في مصر بعد خبر سماع محاصرة فرنسا للجزائر ونظرا لقوة السفينتين فقد حوصرتا من قبل سفن فرنسية لمدة ثلاث سنوات بميناء الإسكندرية وقد حدثت مشاكل انسانية للركاب ويجهل للآن مصير السفينتين هل بقتا ضمن الأسطول المصري أم غادرتا لتركي.
لعلّني أجدُ هذا تفسيرًا منطقيًا، لأنّ الجزائر وقتها كانت تحت الحصار الفرنسي الذي بدأ منذ أفريل 1827 بعد حادثة المروحة، يعني الوضع كان عبارة عن قنبلة موقوتة قد تنفجر في أيّ وقت. و حتى و إن كانت المشاركة قويّة، فإنّنا نحن المشرقيّون كنّا نتبع النّهج القديم و العتاد الكلاسيكي بينما كانت تخوض أوروبا غمار ثورتها الصّناعية، كما حدث في نافارين، التي جمعت العثمانيين و المصريين و الليبيين و التّونسيين و الجزائريين تحت الرّاية العثمانية ضد التّحالف الأوروبي، أين تفوّقنا نحن بالعدد و هم بالعتاد فكان الفوز من نصيبهم.
فالجدال حول ما الذي كان ليحدث لو لم تحدث المعركة، أراه جدالاً عقيمًا. لأنّنا نبقى نخوض عبثًا في إمكانيّاتِِ لا حصرَ لها بينما كان من الممكن أن نسجّل الأخطاء التي وقعت و نمضي قُدُمًا. و لكنّنا نهوى العيش في الماضي!
و هنا حماقات أخرى، أن نسرف وقتنا في جدالات لا حصر لها لمجرّد الجدال، ليس في السّياق التاريخي فقط، في كلّ شيء، نتكلّم لأنّ الكلام سهل و لأنّنا نحسّ أننا نقوم بشيء فعّال كوننا نعالج قضايا مفصلية، النوت اللي لازم أردّ عليها، النصيحة اللي مش متأكد منها و لكن لازم أعطيها، الكلام اللي ملوش ستين لزمة ولكن لازم أقوله.. صدّقني لن تموت إن لم تملكك رأيًا في شيء ما. و حماقة أن تعيش في الماضي، أو المستقبل، كلاهما وجهان لعملة واحدة، ضريبتهما وقتك، و تطوّرك.
معركة نافارين واحدة من الأمثلة الكثيرة التي تصبّ في مقولة "لكلّ حصانِِ كبوة"، لا أنعث أحدًا بالحماقة هنا، ولا أشكّك في ما يقوله أحد، حاشى لله. الأمر و ما فيه أنّنا نخطئ كثيرًا. و هنا سعي للتصحيح.
عمومًا، عساكم ما ضعتو بين الأحداث؟
دمتم سالمين!
مبدعة 🫶
عبقرية الطرح وعبثية الانسان واضحة جدا 💚💚💚 شكرا شكرا حبيتتتت